التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الخربة

 أشواق الدعمي/العراق

 تختلف عن أقرانها كثيرًا، ليس ثمّة شبه بينها وبينهم إلّا في أشياء قليلة جدًا أهمّها الحِرمان؛ فهم يجوبون الشوارع ذهابًا وإيابًا يهرعون إلى المارّة راكضين، هذا يطرقُ نافذةَ السيّارة وذاك يستعطفُ تلك المرأة المسنّة، وغيره يستحلفُ هذه الشّابة التي تحمل طفلَها بِغلاتِه عندها داعيًا له بالصّحة والسّلامة، بينما هي اختارت إشارة المرور لتجلس عندها، مستندة إلى عمودها، بشَعرها المنكوش، ثيابها البالية، كفيها الصغيرتين اللتين احتضنتا بعضها يخفيان خلفهما قصصًا وحكايا لم يطلع عليها أحد والشمس التي تتخذُ لها مجلسًا على وجهها الطفولي البريء؛ فغيّرت لونه حتى تكاد تخفي ملامح الجمال فيه، إلا الغمازتَين واللتين أخذتا لهما موقعًا على خدّيها الطريين، والعينين المدورتين الجميلتين اللتين تنظران بترقّب وقلق واضح وصمت دائم. كل يوم وأنا أشاهد المنظر نفسه؛ فأستغل توقّف السيّارة في الإشارة الضوئيّة لأترجل مسرعة وأعطيها ما يسدّ رمقها ليومٍ كامل، لم أفكّر أبدًا أنْ أسألها شيئًا أو أتحدّث معها، كلُّ الّذي يهمّني أنَّها لا تعود خالية الوفاض؛ لأنَّها لا تفعل مثلما يفعل أقرانُها بل تكتفي بالجلوس مستندةً إلى عمود الإشارة الضوئيّة. في صباح جديد لم تكن موجودة في مكانها المعتاد، نظرت يمينًا ويسارًا، لا أعرفُ لماذا؟ توجّست خيفةً من عدم وجودها، لم تسعفني الإشارة الضوئيّة بالقليل من الوقت للسؤال عنها. ذهبتُ إلى عملي وأنا منشغلة بها ولا أدري لماذا أنشغل بها عقلي وقلبي، بقيت طوال النهار صورتها وهي جالسة قرب الإشارة تتراءى لي, لم تفارقني أبدًا،في تلك الليلة لم أستطِع النّوم؛ فكلّما أغمضتُ عيني دهمتْني صورتُها ونظرةُ عينيها وهُما تحدِّقان بصمتٍ بريء في وجهي. لأول مرة تحدثتُ مع زوجي حينما سألني عن سبب شرودي، فأخبرته عنها وعن مخاوفي والقلق الذي ينتابني عليها ولكنه لم يتعاطف معها مثلي وبرر ذلك. - ممكن ان تكون انتقلت إلى مكان أخر تجلس فيه. ليس هذا فقط بل أنه أستهزئ من كلامي بدا ذلك واضحاً من حركت يده التي هَزها مع تمتة منه لم افهم منها شيئا ثم أدار لي ظهرهُ ليغط في النوم. صباح اليوم التالي خرجتُ مبكرة آملة وجودها في مكانها المعتاد، كانت عيناي تسرع أكثر من السيارة وحين وصلت اجلتُ بصري في اطراف المكان ولم أجدها أيضًا، بدأ قلبي يخفق بشدّة، لماذا هذا الغياب المفاجئ، أكثر من تسعة أشهر وأنا أراها كلَّ يوم في ذات المكان، أليس غريبًا أن لا أجدها؟ ممكن أن تكون مريضة؛ فنسمات الشتاء الباردة التي نجدها لطيفة ونحن نتدثّر بمعاطفنا ذات الفراء الغالي الثمن قد تكون شديدة القسوة عليها وهي تختبئ متقرفصةً في معطفها المتهالك. ركنتُ سيارتي قريبًا من المكان ونزلتُ أتلفَّتُ يمينًا ويسارًا عَلّني ألمحها في مكانٍ ما، أو قد تكون غيّرت مكانها ولكنّي حينما لم أعثرْ عليها دلفتُ إلى الأطفال الذين كانوا يتسوّلون بالقرب منها، سألتهم عنها، بدا عليهم الارتباك والتهرّب من الجواب، ولكن بعد الإلحاح عليهم، كان أحدهم أكثر جرأة وزاد من جُرأته مبلغاً من المال أعطيته إياه؛ فبادرني قائلًا: -نعم يا خالة أنا سأقول لكِ كل شيء، قبل يوم أمس كانت تجلس في باب المنزل الذي نعيش فيه وحين تأخّرت بالدخول، أمرتنا صاحبة المنزل بمناداتها وعندها خرجنا لم نجدها، بحثنا عنها كثيرًا، ثم...ُ ثم... بدأ يتلعثم الصبي مرتبكًا خائفًا، بينما ينظر إليه رفاقه بريبةٍ ووجل. -ثمّ ماذا؟ أكمل حديثك يا بني، لا تخشَ شيئًا، قُل، ترقرقَ الدمع بعينيه، حبس غصةً كبيرة في صدره الصغير ليكمل حديثه. - وبعد البحث عنها كثيرا وجدناها مقتولةً في الخربة التي خلف المنزل الذي نعيش فيه مغطاة بقطع كارتون وقد مُزقت ملابسها وقيل قد ....قد.... - قل يا ولدي لا تخف. - قد تم أغتصبها وقد أمرتنا صاحبة المنزل بعدم إخبار أحد، ولا نعلم أين ذهبوا بها هي والسائق الذي يأتي بنا صباحاً إلى هنا ويأخذنا عند المساء، أرجوكِ يا خالة لا تخبري أحدا٠ - يا إلهي، أشعر بالغثيان، الأرض بدأت تدور بي، أحسُّ أن أمعائي تتقطع، يكاد يغشى عليَّ مما أسمع،أسندني الصبية وساعدوني في الوصول إلى سيارتي، جلست وأسندت رأسي إلى المِقود، يا ربّي أنّها صغيرة جداً، أنّها بعمر ابنتي التي فقدتها في المشفى بعد ولادتها ولم أفقد الأمل يوماً في العثور عليها، ماذا لو كانت هي؟٠ يا إلهي، رحماك ربي٠ 

موقع ميشانيون



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حسين نهابة

حسين نهابة مُترجم وشاعر وكاتب - العراق – محافظة بابل - الحلة - تولد 1966 - ايميل: info@ebjed.com - ايميل: husseiny10@yahoo.com - رقم الجّوال: 009647831010190 - رئيس مؤسسة "ابجد" الثقافية. - مستشار مجلة الدراويش الصادرة في المانيا - رئيس مجلس ادارة صحيفة الأديب الثقافية 2018 - رئيس مجلس ادارة مجلة "كلكامش" لعامي 2010 و 2011. - عضو جمعية المترجمين العراقيين. - عضو اتحاد الادباء والكتّاب العراقيين. - عضو اتحاد ادباء وكتّاب جمهوريات يوغسلافيا. - مسؤول النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين – فرع بابل - خريج كلية اللغات لغة اسبانية 1988 - خريج كلية التربية لغة انكليزية 2004 - ثلاثة عشر كتاباً مُترجماً من اللغة الاسبانية الى اللغة العربية 1. البحّار الصغير – رواية 1987 – بغداد – وزارة الثقافة والاعلام. 2. عاصفة في الكون - رواية 2010 – لبنان – دار المختار. 3. الانهيار - رواية 2011 – لبنان – دار المختار. 4. القرود الذهبية الثلاث - رواية 2012 – بغداد – دا...

رشفة موت عارية

شعر : مهند جاسب سألت نفسي من اكون كالعاده اكتفت بالصمت ولم تجيب تركتها وانشغلت بحبيبتي كيف سأتركها والحرب قادمة لا اتمنى تكون ارملة نعم اود الموت على صدركٍ لكن كل هذا بلحضات سريعة احظروني الئ غرفة التحقيق لا اعرف عن ماذا يتحدثون قرروا جميعاً ان اصلب حتى الموت قالو لي اطلب شيء اخير قبل الموت كنت استلذ بالاعدام قالو لك ما تريد ربطوا عيناي وقيدو معصمي اخذوني لا اعرف الى اين يبدو المنفئ اسمع اصوات وانا امر من قربهم والبعض الاخر يبصق علي وكل هذا وحبيبتي كانت مبتسمة هكذا كان شعوري اوقفوني على المقصلة ومن ثم قالوا اشياء لم اهتم لها فكوا قيودي اغمضت عيناي من شده النور ومن ثم سألوني هل تريد الماء اجبتهم اريد زجاجة خمر اود مقابلة الله وانا سكران

علي حسن الفواز

ali_fwaaz@yahoo.com علي حسن لازم الفواز تولد بغدا د / 1957 - دبلوم فني في الصحة العامة بكالوريوس آداب لغة عربية خبرة في الاتصال والاعلام / جامعة العلوم والتكنلوجيا في البحرين خبرة في الاتصال والاعلام الصحي من W.H.O    الجمهورية العربية اليمنية عضو عامل في نقابة الصحفيين العراقيين امين الشؤون الثقافية في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عمل في مجال الصحافة المرئية والمكتوبة والمسموعة مراسل مجلة اليوم السابع في باريس لغاية 1990 مكاتب مع جريدة القبس الكويتية لغاية 1990 كتب المئات المقالات والدراسات في الصحف والمجلات العراقية والعربية كتب العشرات من المقالات والدراسات التي تخص النقد التلفزيوني والسينمائي معد ومقدم برنامج صحتنا حياتنا في اذاعة جمهورية العراق معد ومقدم برنامج اشراقات الثقافي في قناة الانوار الفضائية معد ومقدم برنامج كاتب وكتاب في قناة اشور الفضائية القى عشرات المحاضرات في مجال الاتصال والاعلام عضو هيأة تحرير مجلة الاديب العراقي اصدر المجاميع الشعرية التالية:: فصول التأويل مرايا لسيدة المطر مداهمات متأخرة الوان باسلة اع...