رحيل كسيمفونية حزن

قصة : نوال الراضي - المغرب

هنا في هذه المستشفى الحكومية الموبوءة برائحة الموت البرد شديد عليك أماه، فصل الشتاء موحش، يا لقساوة القدر ويالقساوة البشر.

كم أتمنى أن أهديك من حياتي وأدعو لك بالشفاء وأترقب تحسن وضعك أنا لا أفكر في شيء أنا هنا باق مسند على جدران الانتظار، لا أريد الذهاب إلى مكان أنسى فيه نفسي وسط تباطؤ دقات الساعة، وشعوري قلب مصاب بالعلل كلها، يكره الذين خذلوني وخذلوك وخذلوا كل الأوفياء، أنا أكره كل اللصوص الذين سرقوا أحلامنا، قتلوا آمالنا، نهبوا خيراتنا وحقوقنا زادوا أوجاعنا سرقوا منا أحلام عمرنا؛ أولئك المسئولون عن استنزاف ثرواتنا؛ (اللصوص) هذا الاسم يليق بهم.

تحدثني نفسي: الناس متى يعيشون؟ أين يعيشون؟ كيف يعيشون؟ الناس لا يعيشون؛ إنهم ميتون في دار الولادة، إنها حقا حياة بئيسة تعيسة، نحس ونحن فيها بالحقارة والضنك ونشعر بالفقر والقهر، والقعر ملطخ بالمظالم والقاع لم يمتلئ بعد، هذا شعوري لو كان شعيرا لاستحسنته الحمير.

لطالما حلمت أن أحقق لك تلك المطالب البسيطة التي استكثرها علينا أولوا الأمر، ولكن الواقع أماه مر مرارة عود الدفلة أنا لا أدري إن كنت أستطيع؟ صدقيني الأمر ليس بيدي فلتتلطف بي الخفايا الإلهية، فلتحلل بي رحماته فل ينزل بلطف في أمره ، لطالما دعوته وأدعوه أن يعطيني لكي أسعدك كما أسعدتني ولا زلت أدعو ولا ينفك فكري على التفكير في الغد كيف سيكون؟ أنا لا أريد أن أسعد لوحدي أنا أريدك معي بل أريد إسعادك أنت قبل أن ترحلي وتتركيني ضائعا من بعدك وأرجو من أعماق قلبي لو يتحقق مطلبي البخس هذا.

ممدة أنت على وشك الرحيل وأنا أبتسم في وجهك ولا أفكر في نفسي قط وأنت طريحة الحزن والألم كل ما أحمله في نفسي من هموم والحمل أثقل من كل ثقيل، من أجلك وحدك أحتمل وأقول ليت الغد يأتي بسرعة.

أمني النفس بالقول: القادم أحلى، ليت الحلم يتحقق قبل رحيلك وأنت إذا رحلت، رحلت كل الأماني معك وانقطع حبل سعادتي الوحيد.

فكري بعثرة كلمات تلوح ذات الشمال وذات اليمين قائلة: أمي لا تتركي ولدك وسط الطريق، خذي من عمري ولكن لا ترحلي...

يا قلبها لا تتوقف عن النبض أرجوك...توقف قلبك، رحلت وتركتني.

في مشهد حزين ها هم زوارك يقفون على قبرك ويرفعون أكف الضراعة إلى الخلاق العظيم أن يشملك برحمته، فلتخلد روحك بسلام فلتحيي دون نهاية هناك في منزلك الجديد، بالنسبة لي أنت لم تموتي ولن تموتي أبدا، ستظل صورتك خالدة في ذهني ووجداني فلتنعمي بالسعادة في الفردوس الأعلى، أنا لا أملك لك غير الدعاء وكيف لا أدعو لك وأنا الابن البار المرضي المهدي، هكذا كنت تنادينني دائما...

يصبرونني كل على حسب مستواه العلمي، واستيعابه الفهمي لما توارثوه من أقوال في حادث الموت: لا إله إلا الله، إن لله وإن إليه راجعون، البقاء لله، خفف الله عنكم مصابكم، نسأل الله أن يصبركم ويرحمها رحمة واسعة، ويحسن إليها ويغفر لكم ولها...يعزفون على أوتار قلبي المشروخة كسيمفونية حزن موسيقى الرحيل.

لم أكن استطيع الرد عليهم، كنت أهز رأسي فقط وأبكي، وتبقى بذهني بيت شعر كنت أحفظه في المستوى الإعدادي: قاله لي أحد المعزين الملتحين المحتسبين عندنا من العلماء:

كل بن أنثى وإن طالت سلامته*** يوماً على آلة حدباء محمول

قلت: ليتني أحمل أنا أيضا مثلها، فألحق بها إلى المكان الذي هي ذاهبة إليه الآن، سمعني فقال: استهدي بالله، الموت علينا حق وهذه دنيا فانية زائلة، ما ينتظرنا في دار الخلود الأبدي أرقى وأبهى، نظرت إليه وقلت في نفسي: ليس مهما ما ينتظرني في تلك الدار، المهم أن تبقى معي أمي في هاته الدار.

انتهت الجنازة، وعادوا إلى آبائهم وأولادهم، وأنا بقيت وحدي بين أربعة جدران، ضائع أنا أماه من دونك، صدقيني لم أستطع بعد استيعاب رحيلك؛ قلبي ينفطر حزنا، وتعود بي الذاكرة إلى الوراء.

في اليوم الثالث زارتني روحك في المنام، سألتني: بماذا تشعر؟

بماذا أشعر؟

أنا نفسي لا أعلم كيف أصف شعوري؟ لا أعلم شيئا عن شعوري فكيف أصف ما أشعر به؟ شعوري أرض قاحلة، صحراء من الرمال تهزها العواصف حينا بعد حين لتنقلها من مكان الماضي البعيد إلى الماضي القريب؛ إنه الضياع أتلف أفكاري أنا أشعر بتوقف عن الزمن، بالتخلف عن الركب.

توسلت إليك مجددا في منامي أرجوك لا ترحلي، قلت لك: أنت كل ما تبقى لي في هذه الحياة كل أملي أنت، غاب طيفك عن خيالي؛ فاخترت طريق البكاء لأنه وحده الطريق السالم الخالي من الأشواك وليس البكاء بيني وبين نفسي إلا أساس الراحة النفسية وسبيلها، كما أوصيتني تماما.

أتذكر كلامك وأنت تسألينني: ما به الحزن يسكنك؟ وتواسينني: اخلع عنك ثوبه ولا تأبه، لا تنظر وراءك سر قدما إلى الأمام، الخلف للضعفاء فقط وأنت لست منهم.

مرت أربعون يوما قلت: علي أن أنهض من جديد في هذا الوقت بالذات أطلقت العنان لصرخاتي بدأت الكتابة أحببتها وقلت في نفسي: لم لا أولست أستحق أن أكون مبدعا أنا أيضا؟ بم يتميز عني الباقون من المخربشين؟ لربما كنت مثلهم لدي مميزاتي الكثيرة... وبدأت الكتابة من أجلك.

دعوت دعوتك المحببة إلى قلبي: لا زلت أتذكرها، دعوة الضعفاء: انتشلنا يا الله من ظلمات هذه الحياة البئيسة، في ذلك الحين سنرتاح وستزول عن قلوبنا كل الأحزان.

وتذكرتك يا أمي وأنت تقولين لي ذات مرة يستحسن ألا تخبر أحدا بما تشعر به وأنت في لحظات الحزن النفسي، وأنا لن أخبر أحدا صدقيني.

وقلت لي ذات أخرى: أن يرحمك هو وينتشلك من حزنك خير من أن يشفق عليك بنو البشر، تلك كانت كلماتك؛ يرن صداها في أذني كسيمفونية حزن.

بدأ الحزن صاخبا وانتهى هادئا بلحن يبحث في نفسه عن شيء لا يعرفه، أو بالأحرى لم يكن يحسب له حسابا؛ لحظات انكسار بين يدي الذات.

قلت لي أيضا: لتعيش في هذا الزمن عليك بالذكاء والدهاء والفطنة والصمت والصبر، ولتسعد عليك بالأكل والنوم، لا تنس نفسك اغتسل وتطيب وتنفس الصعداء كلما استطعت تزوج وأنجب أطفالا...

واستمتع بهم وهم يكبرون أمام عينيك، واعمل صالحا تجده وخيرا كثيرا افعل واذكر ربك في نفسك إذا نسيت.

ولا تأبه لما يدور من حولك من أحداث فإن الأحداث لا تنقضي والزمن يدور مثلما تدور الأرض اقرأ كثيرا واكتب ما استطعت.

الآن أتساءل: كيف أتزوج يا أمي وكيف أنجب أطفالا وألقي بهم في غياهب التعاسة؟

كيف أسعد في هذه الدار وهي مدنسة باللصوص يتهافتون على أربعين حقيبة، كثرت الحقائب وفرغت المحتويات يا أمي.

بلغتك أنت تحدثينني وبلغتي أنا أكرر ما قلته كالمجنون.

ابك على قدر استطاعتك لأن البكاء وحده كفيل بإخراجك من دائرة القهر ومن ظلمات البشرية الشريرة، فالبكاء يطرد كل الطاقة السلبية من داخلك ويجعلك تبوح علنا دون أن تدري للخالق أنك تحتاجه وتريد مساعدته فتطلب منه الرحمة.

أنا أبكي يا أمي فهل تسمعين بكائي؟

أماه أتسمعين صرخات قلبي يحملها الأنين إلى نظرة من عينيك، افتحيهما يا أمي وقفي على قدميك لتفتح لي الباب من جديد، لن تفتحيهما رحلت وتركتني.

وأنا الآن أردد كلمات تلك القصيدة: الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق، وأقول الباب لن تقرعه كفك بعد الآن، أين كفك والطريق؟