رحيم حمد - العراق
سرت في شارع لم أعرف أسمه لعاصمة الدولة التي وصلت إليها، بدت لي الطبيعة وديعة مسالمة لا تعرف الأذى، الشمس باهرة بلونها الفاقع الشفاف تبرز من تحتها الأشياء قشيبة نظيفة، وكأنها خرجت لتوها من مصنع الطبيعة وكان الصمت عميقاً والصوت لم يُخلق بعد،العالم ينتظر مكتوم الأنفاس للمخلوقات التي ستزعجه بصراخها وبكائها..بلغني السكون فعلاً كما تلفني الغربة، اتجهت لمنطقة وطئت فيها الصخر الأحمر كحجر ياقوتٍ لم يُصقل بعد، وقفت وسط العشب الشبيه بفراء أخضر لحيوان في سبات، بحثتُ عن مسند أتكيء عليه...رأيتها ورائي تبتسم مقتربة مني، قالت: -هل أعجبك المنظر؟ -ولمَ لا،أنه موقع ممتاز..يبدو أن كل شيءٍ هنا وادعٍ مسحور!! وسعت ابتسامتها واردفت قائلةً: -ستتجمد من البرد، لماذا لم تلبس معطفك؟ -لم أعرف أن الجو هنا بارد لهذه الدرجة!!حينها شعرتُ بالبرد حقاً،رعشة خفيفة هزت جسدي، كرعشة الطفل عندما تذكره أمهُ بظلام الليل وبرودته..تقدمت مني وألقت معطفها عليَّ،تكورتُ بجانبها كطفل مذعور، تحسست ملمس جسدها الدافيء الطري يداعب عظامي التي هي جنبي، رحتُ في غيبوبة لذيذة..نقلتي بسيارتها إلى شقتها حيث عرفت فيما بعد أنها تعيش وحيدة، تركتني في فراشها الوتير بعد أن هيأت لي كل وسائل الراحة والدفء ذاهبة إلى عملها.. عادت أثناء المساء وجدتني على ما يرام شرحتُ لي أنها حاصلة على دكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة بغداد وهي الآن رئيسة مهندسين لمشروع شق نفق بين الجبال وعن عظمة الإنسان الذي يستطيع إجبار الطبيعة، لكني كنتُ أحسُ بعظمة أخرى للأنسان، عظمة الدفء الذي يمنحه..كنت أجيبها بنعم، بينتُ لها أنني الطريد الفالت من عالم الجائعين المتشردين جئتُ الى هنا أبحث عن عمل لسد رمق الجياع لثلاثة أولاد وزوجة في بيت قديم ليس ملكي إنما هو لآخر مقابل أجر شهري، اسهبت في الكلام معها شارحاً وظعي بشكل عام، هي في المقابل ايضاً استرسلت في كلامها بأنها عراقية وشهادتها عراقية يوم كانت جامعة بغداد لها صدىً كبير في العالم والوطن العربي..جاءت لعاصمة هذه الدولة بعد وفاة زوجها المهندس أيضاً وذلك قبل عشر سنوات وتجنست فصارت من سكانها..اصطحبتني في سهرة ليلية ممتعة جدا لمرقص لم أرى له مثيل في بلادي الغارقة بتقاليدها البالية متوسمة الفتاوي من هذا وذاك، عرفتني على أصدقائها، استمرت السهرة لكني طلبت منها عند منتصف الليل أن نخرج من ضوضاء الموسيقى، استجابت لي وتأبطت ذراعي بضحكة لم أسمعها نتيجة الصخب إلا أنني المحتُ شفتيها تنفرجان..اتجهنا للبحر ركبنا سفينة نهرية غمرنا ليلٌ نديٌ فواح برائحة أعشاب ونباتات مبللة وقليل من زفر السمك، صارت السفينة تمخر عباب البحر، وكان العالم المرئي ينتهي على بعد أمتار ثم تبدء الظلمة حالكةً كالحبر الصيني.. أتأكتْ على حاجز السفينة وحدقتْ في الماء بعمق كأنها تريد أن تعثر على شيءٍ مفقود، تركت جسمها لي تأملته في الضوء المتسرب من مقصورة السفينة، كل شيء فيها جميل، بعد عدة دقائق من الصمت، سألتني عدة أسئلة، رمقتني بنظرة رومانتيكية أخذتها من أريك ماريا ريمارك في ليلة لشبونة..بعد فترة عادت السفينة من حيث انطلقت..ركبنا سيارتها، وضعت كفي بكفها شعرتُ بلمسات جسدها وعلى وجهي أنفاسها وفي يدي دفءُ كفها الطرية..صرتُ أنظر من خلال زجاج السيارة لأتلهى بمراقبة المارة ورحتُ أترقب غارقاً في بحيرة الماضي كثيراً،لم أرَ مارةً كما هو الحال في بلادي عندما كنت أسير على رصيف الشارع سلوتي سلوة الذين لاعمل لهم، الضائعين المعلقين اَمالهم بالحصول على عمل بحياتهم العجلى الضوضائية وهم يعيشون ليومهم فقط دون معرفة ماذا يضمر لهم الآتي..ضغطت على يدي بقوة، تنبهت إلى وضعي وأين انا مثَلي كمثلِ الواقف أمام الباب الأصم مشدوهاًيحز ظهري عرق الخجل البارد لأني لم أشاركها الحوار ونحن داخل السيارة.. أعتذرتُ لها قائلاً: - في حياة كل إنسان لحظة لاتعود الحياة بعدها إلى ما كانت عليه، كنت أفكر في هذه اللحظات التي انا فيها معكِ ،أين أنا وأين أنتِ؟! قالت: -هل لديكَ حبيبة؟؟ -لا؟ -ألم تُحب؟ -أحببت ولكن لم أُحَب!!! تزوجتُ مبكراً وصار لديَّ ثلاثة أفواه وأمهم ينتظرون مني رغيف الخبز، وهم الآن مليءَّ ذاكرتي مما حرك الدم في عروقي وكأني أَشم روائحهم وأسمع خفق أصواتهم رغم بعدهم عني حتى صارت تلك الأصوات همهمةٍ موصلَةٍ أحس بصداها كزئير المعدن على الأرض..وصلنا شقتها والتقينا، كان لقاءً عذباً وأقرب إلى حياة البشر، شعرت حينها أنني بشر حقيقي، تسامرنا مع أقداح المشروب، أخذت يدي، انا طمعتُ بمزيدٍ من الدفء، أحكمتُ تشابك الأصابع وسحبتها نحوي بتؤدةٍحتى أحسست بجسمها يلثم أضلاعي، تذكرتُ ساعة دخولي معطفها، شعرتُ كأني مولودٌ خارج رحم التوقيت قلتُ لها:- عندما اَويتيني تحت معطفكِ وجدتُ نفسي في سقف العالم؟؟!! -نعم أعرف وشعرتُ بنفس شعورك..مما دفعني للألتصاق بكَ أكثر فأكثر، يالها من لحظات لا أجمل منها!!.ستقع؟! -لا تخافي نحنُ في أحضان الأرض الرؤوم.... ربتَّت كف نديةٌ على كتفي: -انهض يارجل لقد تأخرت كثيراً عن البحث عن عمل، لسد رمق الجياع؟؟!! نهضت، فتحتُ عيني، وجدتُ نفسي في غرفة نومي، هتفتُ: -ما أجمله من حُلم، لكن وجودي مع أطفالي يفوقُ كثيراً ما كنتُ أَحلمُ به..الفراق أشعرني بالغربة أكثر مما أشعرتني الغربة نفسها..هذا الحلم جعلَ لي منهاج في الحياة من جديد، وكيف استطاعت تلك اللحظات أن تقطع هذا القدر من الوشائج التي تشدني إلى الأرض التي وُلدتُ فيها..كل أرض العالم ما عدا أرض وطني ذكرى عابرة، لأني شعرت حينها، أن الغربة موت على قارعة الطريق....؟؟!!
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق